•   info@saudiusa.com
http://img.youtube.com/vi/iUmvfik7x4s/0.jpg
تُعنى الدول المتقدمة بالتعليم العالي والبحث العلمي وتطوير مؤسساتهما، كما تُعنى ببناء المجتمع المعرفي الذي يقوم على الكفاءات العالية وتنمية الموارد البشرية وفق برامج جامعية جادة بعيداً عن القوالب الجامدة والرؤى المتحجرة والمناهج التقليدية القائمة على الحفظ والتلقين؛ وذلك بتطوير مراكز البحث العلمي وتحديث الأنماط الإدارية وضمان حرية الاختيار للباحث.

ولمّا كانت جامعاتنا لم تبلغ هذه المرحلة، وقد لا تبلغها قريباً نظراً لاعتبارات كثيرة تشكل عائقاً وسدّاً منيعاً يحول دون دخولها نادي الكبار، فقد جاء برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي وسيلة من الوسائل التي تساعد على النهوض بالوطن عبر التعليم، وإيماناً من الملك بالدور الكبير والمؤثر للابتعاث على التنمية الوطنية، فقد كان أمره بتمديد برنامج الابتعاث الخارجي خمس سنوات أخرَ قراراً حكيما بكل المقاييس، ففكرة الابتعاث نبعت في الأصل من إيمان الملك بأن الاستثمار في بناء الإنسان أعظم استثمار يعود على الوطن والأجيال المقبلة بالخير العميم، وقد رأينا نتائج الانغلاق عندما أوقفت البعثات للغرب واقتصر التعليم العالي على الداخل بكل ما فيه من ضعف وتخلف كانت نتائجهما كارثية بكل المقاييس، كما رأينا ما فعلته بنا تلك السنين العجاف، التي أتت على الأخضر واليابس، وأدخلت الوطن كله في سبات عميق لم يوقظه منه إلا هدير طائرات الإرهابين وهم يشعلون أبراج نيويورك ناراً! ويشير قرار تمديد برنامج الابتعاث إلى ضعف جامعاتنا، وعدم قدرتها على مسايرة العصر بخطط واستراتيجيات جديدة، تخرّج أجيالا قادرة على دفع عجلة التنمية والسير بالوطن نحو مدارج الرقي والتقدم، اللذين لا يتحققان إلا بالتعليم الحديث القائم على العلوم والتقنيات بعيداً عن التخصصات النظرية التي كرّست قيم التخلف والعجز، وساهمت في تخريج أجيال جاهلة ضعيفة هشة راكمت أعداد العاطلين والعاطلات، كما ساهمت في إيجاد بيئة خصبة للبطالة المقنّعة.

وكان معالي وزير التعليم العالي قد أشار إلى برنامج الابتعاث وتمديده بقوله: "إن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي يهدف إلى رفع كفاءة أبناء الوطن وبناته وتزويدهم بشتى أنواع المعارف والعلوم في مختلف التخصصات والتطبيقات العلمية والنظرية، من مختلف جامعات الدول المتقدمة.. وإن مخرجات (البرنامج) تُعنى بمتطلبات خطط التنمية ".. وتسعى وزارة التعليم العالي إلى أن تكون معطيات البرنامج متميزة تميزاً عالياً بما يسهم في إعداد الكفاءات وتنمية الموارد البشرية؛ لكي تصبح منافساً عالمياً في سوق العمل ومجالات البحث العلمي، وإن تمديد البرنامج فرصة حقيقية لأبناء الوطن للدراسة والتأهيل لنيل أعلى الشهادات!

وتحقيقاً لمبدأ العدالة بين كافة المبتعثين، فقد أمر الملك بضم المبتعثين على حسابهم الخاص في دول عربية للبرنامج، وكم كان مفيداً لو أن البرنامج حولهم إلى دول الغرب أو الشرق؛ لأن التعليم الجامعي في معظم الدول العربية لا يقل ضعفاً عن التعليم الجامعي في بلادنا، ومادامت الدولة ستتولى الإنفاق على أولئك الطلاب الذين اختاروا الالتحاق بتلك الجامعات ربما لانخفاض تكاليف الدراسة عن الدول الأخرى، فإنه كان من الأجدى لأولئك الطلاب وللوطن ابتعاثهم لدول متقدمة، لا إلى دول لا تفوقنا بشيء مما يعد تضييعاً لفائدة أولئك الطلاب من الدراسة خارج بلادنا، وهدرا لأموال كان ينبغي صرفها على ما هو أفضل. وهاهي بلادنا توشك أن تقطف أولى ثمار هذا البرنامج، إذ يتوقع تخرج نحو ثلاثة آلاف طالب وطالبة ابتعثوا لإكمال دراساتهم الجامعية والعليا في أمريكا.

إنّ التحولات التي شهدها العالم اليوم خصوصاً بعد عصر الثورة التكنولوجية، وظهور التكتلات الاقتصادية الكبرى لغربي أوروبا وشرقي أسيا، وبروز نظام العولمة، كل ذلك أدى إلى نشوء مجتمع كوني جديد يقوم على رأس المال البشري الذي يعتمد على العقل والبحث العلمي وصناعة الأفكار والمعلومات، وهذا هو الذي يجعل الجامعات المستودع الحقيقي للمعارف والأفكار، الملبي لمتطلبات التنمية الشاملة. وكلنا نعلم أن جامعات أمريكا وأوروبا وبعض دول الشرق كاليابان والصين، تعتمد على تكنولوجيا المعلومات والاتصال، في التعليم وإنتاج البحوث ورعاية الإبداع والابتكار، وإدخال نظام الجودة وإدارتها، والاستفادة من تقنيات التقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتية، في توليد الأفكار وبناء المعرفة والعلم وربطهما بسوق العمل، وفتح قنوات جديدة للتعليم وتنمية المهارات والقدرات اللازمة التي يحتاجها الطلاب أثناء الدراسة، وبناء شخصية الطالب الجامعي المتكاملة (عقلياً وجسديًا ونفسياً وابتكارياً في ظل متغيرات عصر الانفجار الرقمي). فأين جامعاتنا من هذا كله؟

من هنا جاء تركيز برنامج الابتعاث على هذه الدول رغبة في تحقيق أكبر فائدة للمبتعثين والمبتعثات، وكانت اليابان والصين وكوريا، قد سبقتنا إلى ذلك منذ عقود؛ إذ أرسلت أبناءها لدول الغرب لتلقي التعليم هنالك، ولما عادوا ساهموا في تطوير بلدانهم، التي حققت تطورًا علمياًً مذهلاً، أدى إلى ارتفاع الناتج القومي فيها ارتفاعاً تفوقت فيه على كثير من الأوطان الأخرى! لكنّ برنامج الابتعاث لم يخلُ من تشكيك المشككين في جدواه، فهناك من يراهن على فشله متذرعاً بتسرب بعض المبتعثين من البرنامج وعودتهم إلى الوطن، الأمر الذي عده وزير التعليم العالي أقل كثيراً من تسرب الطلاب من الجامعات المحلية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وجد من هاجم الابتعاث إلى الخارج جملة وتفصيلاً في إحدى القنوات المتشددة، قائلا: "إنّ هذا البرنامج فيه مفسدة للشباب والفتيات! وإنّ الإقامة في بلاد المشركين وبينهم حرام ولا يجوز" وأخذ يسرد الأدلة التي لم ترد في أيّ منها كلمة (حرام)! ولا أدري كيف يستسهل أولئك القول بفساد الشباب والفتيات وكأنهم لم يتربوا تربية دينية صارمة منذ نعومة أظفارهم، وكيف يسارع بعضهم إلى التشكيك في أولئك الشباب الذين يستحقون منّا الدعم وزرع الثقة والتوجيه السليم بدلاً من التشكيك فيهم؟ بل كيف يتجرؤون على تحريم ما لم يرد نصّ في تحريمه؟ إنّ الإسلام لم يدعُ المسلم إلى العزلة والانغلاق وعدم التعارف إلى الآخر (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، والتعارف حتما لا يكون بالمكوث في مكان بعيد منعزل وإغلاق الأبواب في وجه الآخر والتعالي عليه، ولم يمنعه من الاستفادة من علوم الآخرين، مادام ذلك لا يؤثر في جوهر الاعتقاد، كما أنه لم يربِ ِالمسلم على الخوف والفزع من ضياع الدين، ذلك أن للدين من الرسوخ والثبات في نفس المسلم ما ينفي عنه الضعف والهشاشة، التي تصور للآخر المنغلق على نفسه أن أيّ احتكاك بالآخر خارج حدود الوطن مؤذن بالانحراف عن الدين، ناهيكم عمّا يروجون من دعاوي الانحراف الأخلاقي الذي سيقع فيه المبتعثون والمبتعثات! وأنهم لا محالة سيذوبون في حضارة الآخر ذوباناً تاماً يصعب معه عودتهم إلى وطنهم! هؤلاء هم الذين يصرون دوما على تغليب رؤاهم الضيقة ومخاوفهم غير المبررة؛ لأنهم أعداء التغيير الذي يجهلون وأنصار الراهن الساكن الذي فيه يرتعون! لكن الجميل والمدهش أن تلك الدعوات لم يصغ ِ إليها أحد، فلا توقفَ البرنامج، بل امتدّ لخمس سنوات قادمة، ولا عاد كل أو معظم الطلاب عمّا سافروا إليه، ولا تقوقع المبتعثون على أنفسهم وانعزلوا عن المجتمع الذي ذهبوا إليه خوفاً على دينهم وأخلاقهم، فتلك المجتمعات كغيرها من المجتمعات فيها الصالح والطالح، والخير والشر، كما أن لديهم من القيم والأخلاقيات وسلوك الانضباط وحب العمل وإتقانه واحترام المواعيد والاهتمام بالوقت - مما قد لا نجده في ممارسات بعض من ينتمون للإسلام - وغير ذلك مما نرجو أن يتعلمه المبتعثون ويحرصوا عليه. وكان الملحق الثقافي السعودي في أمريكا قد أشار في ملتقى المبتعثين إلى" نجاح الأندية الطلابية السعودية في أن تكون جزءاً فاعلاً في الجامعات الأمريكية؛ إذ انضم 102 ناد ٍطلابي سعودي إلى اتحاد الطلبة الأمريكي، وصارت تلك الأندية تحت مظلة الجامعات وتحظى بدعمها مادياً ومعنوياً". وهذا بلا شك من شأنه أن يقضي على حالة الانغلاق والتقوقع التي كانت مهيمنة على الطلاب السعوديين، إذ ما أن يصلوا إلى أمريكا حتى يتلقفهم المتشددون من عرب وغيرهم لينخرطوا في أمور غير تلك التي سافروا من أجلها، وهذا ما جعل ابن لادن وزمرته المجرمة تغرر بإرهابيي نيويورك لينفذوا جرمهم. كما كان قرار الملك بتمديد برنامج الابتعاث محل ثناء وتقدير جمع كبير من المواطنين حسبما ورد في الصحف، الأمر الذي يؤكد أنه لا فائدة ترجى من محاولات التشكيك في البرنامج وأخلاق المبتعثين والمبتعثات. وكعادة الذين يستغلون تلك المناسبات لصالحهم، فقد سارع أحدهم إلى شدّ الرحال إلى الطلاب في بعض البلدان واعظاً وناصحاً! يقيناً أن ذلك لم يكن على حسابه الخاص، أما الآخر فقد كان أكثر براغماتية فلم يضع وقته عندما أعلن عن جمعه حوالي سبعمائة فتوى ضمنها كتاباً سيوزع على الطلاب المغتربين! ولا ندري ما حاجة الطلاب إلى كل ذلك الكم من الفتاوى؟ وما الغرض منها؟ سوى ترسيخ التواكل وعدم إعمال الفكر والتأمل في الأمور وتعطيل عمل العقل حتى وهم يتلقون العلم في أرقى جامعات العالم وليس في جامعاتنا، وذلك لتستمر وصاية بعضهم على المبتعثين بالحجر على عقولهم، فالرسول عليه السلام أمر بأن نستفتي قلوبنا، وأن ندع ما يريبنا إلى مالا يريبنا! ثم هل سيتبرع بالكتاب، أم ستتولى الوزارة شراءه ليكون دليلا للمبتعثين إلى ما شاء الله؟ (وسبحان من يرزق أولئك النفر في الرخاء والشدة)!

لا شك أنّ الوطن سيحصد في يوم ما ثمار هذا البرنامج الذي سيعود على خطط التنمية بفوائد جمة، حيث سينتج جيلاً متسلحاً بعلوم العصر التي لا غنى عنها لمشاريع االتنمية في كل الأوطان، ناهيكم عن تأثير الاحتكاك الحضاري والاطلاع على ثقافات الشعوب المختلفة في المبتعثين كافة، مما سوف يعمل على تخليصهم من مشاعر الخوف والنفور من الآخر، والاستعلاء والأنا المتورمة عند بعضهم التي ترسخت جراء الشحن المؤدلج، وعقد الانغلاق والتحجر التي بسطت سيطرتها على عقول الكثيرين طوال العقود الماضية. إنه إذا كان للتعليم الجامعي المميز القدرة على تشكيل شخصية الدارس وإعادة بلورة أفكاره، فإن ما يتيحه التعليم في جامعات الغرب من فوائد للمبتعثين أكثر من أن يحصى في هذه العجالة؛ من ذلك القدرة على ممارسة حرية التعبير المؤطرة بالقوانين والأنظمة، والانطلاق في مجالات الإبداع الذي يزدهر في مناخات الحرية المنضبطة، وإعمال آليات النقد والتساؤل والتفكير الحرّ والمنظّم، وإعلاء قيم العمل بدلاً من الكلام، والتفكير بدلا من الحفظ، والإنتاج بدلاً من الكسل والتراخي، والثقة بالنفس والقدرات بدلا من العجز والتواكل، والنزاهة والصدق والتواضع والتعاون والعمل بروح الفريق الواحد. علاوة على إنتاج أفكار جدية وبناء معلومات وخبرات ومهارات تخدم المجتمع وتساعد على تطوره ونموه.

http://www.alriyadh.com/2010/02/07/article496321.html