•   info@saudiusa.com
مُـبْـتَـعَـثُـوْن مُنْـذُ قُرُوْن!
( 1 Vote ) 
20 نيسان 2015

مُـبْـتَـعَـثُـوْن مُنْـذُ قُرُوْن!

د.عبدالرحمن علي محمد الحكمي الفيفي.

عِنْدَ التَـأمُّـلِ في صَفَحَـاتِ تاريخِ أمَّـتِـنَـا العلميِّ والأدبيِّ، والبحثِ دَاخِـلَ سجلَّاتِ نَـتَـاجِهِا الفكريِّ والمعْرفيِّ خلالَ الـقُـرُونِ الوُسْطَى؛ نَـجِـدُ في طيَّـاتِـها جُـذوراً عميقةً، وتفاصيلَ دقـيـقـةً؛ لثقافةٍ أَسَّـسَـتْ لعصرِ سيادةٍ لم تَـبْـلُـغْ مثـلها الأمَمُ على مَـرِّ العُصُور! ثقافـةٌ اسْـتَـقَـتْ جُـذُوْرُهَـا العميقـةُ من ثـلاثَ عشْرةَ آيَــةً قرآنيةً كريمةًـ تَـحُـثُّ على السَّـيرِ في مَناكـبِ الأَرْضِ، والتَدَبُّـرِ في أَحْوَالِ الأُمَمِ، والـتَّفَـكُـرِ في العَـالَـمِـين؛ ورَسَـمَـتْ

تفاصيـلَها الدقيقةَ على أساسِ التعارفِ الإنسانيِّ، وكَشْفِ طَـبَـائعِ البشرِ الـمُـتَـبَـايِـنَـةِ، وإدراكِ صَنَـائِعِ الحَضَاراتِ الـمُـتَـغَـايِـرَةِ؛ لـغَـرَضِ شَـحْـذِ العُـقُـولِ، وصَـقَـلِ شَخْـصِـيَّـاتِ الشُمُـوْلِ، التي مازالتْ -إلى يَومِنَـا هذا- مصدرَ إلـهامٍ بَشَرِيٍّ، ومَـثَـارَ فَـخْـرٍ واعْـتِـزازٍٍ إسلاميٍّ وعربِـيٍّ. إنَّها ثقافةُ الرِّحْـلاتُ المعرفيَّـةُ التي كانتْ وستبقى بمثابةِ الأيَـادِي الـمُـمتَـدَّةِ لـتَـقْـرِيْـبِ أُمَـمٍ تنـاءَتْ عن أُمَمٍ، وأقومٍ بَـعُـدُوا عن أقوامٍ، وأبناءِ جِـنْـسٍ واحدٍ تَـفْـرُقُ بينهُم البِـحَارُ، وتَـفْصِلُـهُم عن بعضِهمُ القِـفَـارُ، ومسافاتُ تعاقبِ الليلِ والـنَّـهار.

 


وَعِـنْـدَ البَـحْـثِ والقراءَةِ والاطِّـلاعِ؛ نَـسْـتَـيْــقِـنُ منهجياً بأنَّ المكتبةَ الإسلاميةَ العربيةَ مازالتْ تجودُ علينا بمكاسبَ علميَّـةٍ وأدبيَّـةٍ -من بقايا تلكَ العُصُورِ الذهبيَّـة- التي يتعذَّرُ على الباحثِ مجرَّد حصرِ عناوينِـها، ونَـجِـدُ يومياً بأنَّها ما انفكَّـتْ تـرْفـدُ معارفَـنا بمغانمَ كثيرةٍ وَسَـمَـتْ طابِـعَها عقولٌ نيرةٌ واسعةُ النِـطاق، ورَسَمَتْ معالِـمَها جـولاتٌ معرفـيَّـةٌ جابت الآفَـاق، وتَعرَّفـتْ على كلِّ ثقافةٍ من الأعمَـاق؛ فنقلَـتْ إلى بقيَّـةِ آبائِـنا الأوَّلِـين مُـنْـتَـهَى ما تَوصَّلـتْ إليهِ علومُ ومعارفُ الأقدَمِـين في الشرق والغرب، ثُـمَّ دَوَّنَـتْـهَا للطَّـالبِـين، بِـحَـرْفٍ عربيٍّ مُـبِـين، وبطريقةٍ سهلةِ التناولِ والاطلاعِ في مُـفَـهْـرَسَـاتٍ بَـيِّـنَـةٍ، وكُتُبٍ قَـيِّـمةٍ مازالتْ بقايا مخطوطاتِـها مناراتٍ للمهتدين في مكتباتِ الجامعاتِ العربية والعالمية، وما بَـرِحـتْ أساساتُـها الـمتينـةُ، وقواعدُها الثمينةُ محفوظـةً في المتـاَحفِ الوَطَنيَّـةِ والدُوَلِيـة، بالإضافـةِ إلى كونِـها قد مَـثَّـلَـتْ حَلَقـاتِ وصلٍ ذهَبـيَّـةٍ ما بيننا وبيـنَ الحضاراتِ الأخرى، بَلْ ما بيـنَ عُصُورِ الأُمُمِ الأُخْرى وفَـتَـرَاتِ حَضَارَاتِـها بِـذَاتِـها؛ فلولا تلكَ الرَّحَلاتُ الاستكشافيَّـة، ونتائِـجُها المعرفيَّـة؛ لما اهْـتَـدَى أَحفَـادُ الإغريقِ إلى سُقْرَاطِـهِم ولا إلى أَبُوقْرَاطِـهِم، وبالـمِـثلِ أَبناءُ الرُومانِ واللَّاتيـنيُّون، والمغولُ والصينيُّون، وأهلُ الهِـنـدِ والسِنـدُ؛ ودُوْنَـنَـا ودونَ العالمِ العَصْرِيِّ ما بيـنَ أيْـدِيـنَـا من مَـرَاجِعَ (References) لِـمُـؤلَّـفاتِ مُتأخِـرِي تلكَ الحضاراتِ، وكُـتـُبِهم التاريخيَّـةِ الحديثةِ؛ فمُعظمُها تُشيرُ تارةً إلى تحفةِ ابن بطُّـوطة، ووتارةً إلى رسائِـلِ ابن فَضْلان، وأُخرَى إلى تَذْكِـرةِ ابن جُـبير، أو مروجِ المسعوديِّ، أو تحقيقِ البيروني، أو مَسَالكِ ابن حَوْقَـلْ، أو إحاطةِ ابن الخطيب، أو خرائطِ الإدريسيِّ، أو وَصْفِ الوَزَّانِ، أو فوائدِ ابن ماجد، أو السيرَافِـي، أو التُـرْجُمان، أو المقْـدِسِي...إلخ


كما لا نَـنْـسَى بأنَّ تلكَ البُحُورَ الغزيرةَ، والمصادرَ الوفيرةَ قد نَـهَـلَ منها أيضاً بقيـةُ أجدادِنا -في المقامِ الأول- حيـثُ عَـقِـلَـهَـا خليفةُ المسلمين فـوجَّـهَ الأمراءَ والسَّـلاطِين، ورتَّـبَ السِـجِـلَّاتِ والدَّواوينَ، ونظَّمَ الإماراتِ والوزاراتِ، ويَـسَّـرَ شؤون العامَّـةِ والمجتَـمع؛ واطَّـلَـعَ عليها شَيْـخُـنَـا فردَّ على مَـنْـقُـوْلِ شُـبُـهَـاتِـها، والخُرافاتِ الـمُحَالةِ فيها والبِـدَع؛ وفَحَصَـهَا طبـيْـبُـنا ونَـقَـدَ ما ذُكِـرَ عَـنْ الحُكماءِ، وكَشَفَ الدَّاءِ، ووصفَ الدوَّاءِ، وأضافَ عَلَيْهِا فأضْفَى وأبْـدَع؛ وحـدَدَ قياسَ عجائِـبِ صُرُوحِـها الـبَـنَّـاءُ فأجرَى الماءَ صُعُودا، وعَـلَّـقَ القُـبَـبَ شُهُـوداً، وبَـنَى الصَّـوامعَ الباسِـقَـاتِ ورَفَـع؛ ودَرَسَهَا عالمُ الرِّيَـاضَةِ البَـحْـتَـةِ (أصلُ مصطلحِ الرياضيات!) فاستحدَثَ الصِّــفْـرَ، والـمعادلاتِ والجَـبْـرَ، وأوجـدَ الحِسَاباتِ وطَـرَحَ وجَمَـع؛ وبحـثَ في أوصافِ مَـعَـادنِها صاحبُ الخيمياء (بالخاء؛ أصلُ مصلحِ الكيمياء) فَـعَـرَفَ الطبائِـعَ والأنْـمَاط، وجَـمَعَ العناصِرِ والأخْـلاط، وصاغَ منها التراكِـيـبَ وصَنَـع؛ وقَـرَأَ أَوْفَـاقَـهَا عالـمُ الفَـلَـكِ فاهتدَى بالـنُّجُومِ، وأرشَـدَ سائرَ العُـمُومِ، وحَـدَدَّ أهلَّـةَ الحَـجِّ والصَّـومِ، وأدركَ مواقيتَ الـوُسُوُمِ، فَحَـصَـدَ أصنافَ الطُّـعُومِ طيلـةَ العامِ وزَرَع؛ فما أجمَـلَـهَـا من رَحَـلَات! وما أبدَعَـهَـا من ثَـمَـرَات!


وبالقَـفْـزِ مباشرةً إلى عَصرِنا الحديثِ، والتأمُـلِ فيـهِ كـمَا بَـدَأنَـا جميعاً تأملاتِـنَـا التاريخية أعْـلاه؛ نَـجِــدُ في إشْـرَاقَـاتِ حاضرِهِ البديعِ حكمـةً مُجْـزَاةً، ونفـوذَ بصيرةٍ مُـهْـدَاةٍ، لعظيمِ أمـةٍ قَـدْ رَحَـلَ بجسدِه، ولكِـنَّـهُ خَـلَّـفَ وراءَهُ أجيـالَ وفاءٍ لن يَـنْـضَبَ، ومنجزاتِ أبناءٍ لن تَـذْهَـبَ، وتـرَكَ فينا شمعةَ أمـلٍ لَنْ تَـنْـطَـفِـئَ، وتطلُّـعَـاتِ مستقبلٍ لن تَـنْـكَـفِـئَ ؛ وذلكَ نتيجةَ قـراءَةٍ حاذقةٍ وواعِـيَـةٍ للماضِي، وتنـبُّـؤاتٍ نافذةٍ وواعدةٍ للمُستقـبَـل؛ تَـنَـبَّـهَ إليهِا والدُنا الإنسانُ عبدُاللهِ "رحمهُ الله" فأسَّـسَـهَـا بناءً على تلكَ الـرِّحْـلاتِ؛ تحتَ مُـسمَّى: "بَـرْنَـامَـجِ البِـعْـثَـاتِ" الَّـذي سَاقَــهُ هديـةً إلينا، وسَهَّـلَ أمْـرَهُ علينا، ويسَّـرَ سُبُـلـهُ لـنَـا مُـتَـطَـلِّـعاً بنُـفُوذِ بصيرتِـه وراجياً بحكمتِـهِ أَنْ نَـمْـتَـطِيَ صَهوةَ جوادِ الدُّنيا من جديدٍ، ونُـعيـدَ بناءَ مناراتٍ، وُدورِ نشـرٍ؛ صَفَحَاتُ نَـتَـاجِهِا ما زالـتْ مَزيجَ حِـبْـرٍ وعَــرَقٍ، وأنْ نَـبـدأَ عَـصْـرَ نهضـةٍ فكريَّـةٍ تَـعَـدُّدِيَّـةٍ، بعقولٍ مؤمنـةٍ عربيَّـةٍ سُعوديَّـةٍ؛ لإيفـادِ العُـلُـومِ، ونقلِ المعارفِ والفُـنُون؛ صفحةً معرفيةً بصفحةٍ، وبَحْـثاً علمياً بِـبـَحْـثٍ، ومَقالةً أدبيةً بمقالـةٍ!

وقبلَ الإتْـمَـامِ، أَسْـتَـأذنُكم في إقْحَـامِ بعض الأنْـغَـامِ، من سِحْـرِ الكلامِ، يقولُ فيهما الإمَـامُ؛ أبو عبدالله الشافعي:

سَــافِــرْ تَـجِـدْ عِوَضـاً عَــمَّـنْ تُـفَـارِقُـهُ!
وَانْصَبْ فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَـبِ!
إنِّـي رأيــتُ وُقُــوفَ المــــاءِ يُــفْـسِـــدُهُ
إنْ سَـالَ طَابَ وإنْ لم يَـجْرِ لـم يَطِـبِ


كمَـا يَـحْـسُـنُ بِـيْ في نهايةِ الـمَوائِـلِ، أنْ أَخْـتَـتِـمَ مقالَـتِي بخيرِ الدَّلائِـلِ، لأحدِ الـمُـبْـتَـعَـثِيـنَ الأوائِـلِ: أبـي الحسـنِ الـمسعوديِّ القائِـلِ: "وليسَ مَـنْ لَـزِمَ جهةَ وطنهِ، وقنعَ بما نَـمَى إليه من الأخبارِ من إقليمه؛ كَـمَن قَسَّـمَ عمره على قطعِ الأقطارِ، ووزَّعَ بين أيَّامه تقاذفَ الأسفارِ، واستخراجَ كـلِّ دقيقٍ من معدنه، وإثـارةَ كلِّ نـفـيسٍ من مكمنه" أ.هـ.

جعلَ اللهُ عُـقُـولَـنَا نَـفِـيـسَـةً، ونفوسنَا كريمةً، وأجسادَنا صحيحةً.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

د.عبدالرحمن علي محمد الحكمي الفيفي.
MBBS, King Saud University Kaplan medical preparation 
Washington DC,USA

قسم التحرير

محتوى هذه المقالة لا تمثل رأي صفحة سعوديون في أمريكا او فريق عملها وانما تمثل رأي كاتبها

- Twitter - Facebook
قسم التحرير

موعد نزول الرواتب

تم ايداع المخصصات

تسجيل الدخول